لم يكن يحيى بن إبراهيم شيخا من مشايخ الدين بل كان من مشايخ السياسة و من الأمراء الأقحاح ،فقد سبق لقبائل جدالة و لمتونة و مسوفة إحدى ثلاث أكبر قبائل صنهاجة أن تكتلوا فيما بينهم و كونوا كيانا سياسيا في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي. وكان من بين أهداف هذا الاتحاد العمل على تنظيم تجارة القوافل عبر الصحراء، فيما بين أقصى الشمال حيث منطقة والاتا، وأقصى الجنوب حيث كانت تقع مملكة غانا. ولم يُكْتَب لهذا الاتحاد عُمْرٌ طويل، فوهن ثم تلاشى. فانتهزت غانا تلك الفرصة فازدهرت، وتسلطت على بعض أجزاء الصحراء التي يؤمها تجار القوافل من البربر والعرب. فأعادوا ثانية توحيد صفوفهم سنة 411هـ، 1020م، يقودهم زعيمهم تارسينا الصنهاجي المسلم، الذي خاض معارك دامية ضد غانا، راح ضحيتها سنة 413هـ، 1023م، وخلفه زوج ابنته يحيى بن إبراهيم شيخ جدالة على إمارة هذا الاتحاد.
لقد كان الأمير الجديد أكثر نباهة من صهره و جميع أسلافه ، إذ راح يتأمل في تجربة الوحدة القبلية التي يترأسها و يقارن بينها و بين تجربة ممالك السودان من جهة التي تؤلفها عصبية الغلبة ، ومن جهة أخرى بينها و بين تجربة إمارات مصمودة الإسلامية ،كإمارة هرغة السنية التي تسمى في التاريخ العربي بإمارة الأدارسة و إمارة بورغواطة الشيعية،التي تخطت العصبية القبلية و عصبية الغلبة إلى عصبية أكثر تطورا و اتساعا و التي هي العصبية الدينية .فطن يحيى الجدالي إلى أن الدولة التجارية تكون عكس الدولة التي تعتمد على الإنتاج ،لا تأتلف بالغلبة و الغزو بقدر ما تعتمد على الوحدة و التفاهم. و أنّ الدين يُعدّ أحسن و أنجع وسيلة في توحيد القبائل و الأمم .
في هذه الأثناء، و على الجانب الآخر من الصحراء المترامية الأطراف كانت هناك حاضرة بين سجلماسة و موقع مدينة مراكش اليوم تسمى تلك الحاضرة مدينة نفيس ، فإلى جانب سجلماسة كانت نفيس منارة الحضارة و العلم في طول صحراء أفريفيا الشمالية و عرضها.و كان في نفيس رباط كان يشيع خبره في تلك الآونة، و تتناول الألسنة مشاهده على طول الصحراء.أما الرباط فهو شبه مدرسة عسكرية تكون منقطعة عن التجمعات السكانية.و لا زالت الربط أو الرباطات منتشرة في بلاد المغرب في الجبال و السهول و الأودية و الصحاري ، و تسمى بالمدارس العتيقة. ظاهرها تعليم القرآن و هدفها تكوين جيوش خلفية من المهمشين و الحاقدين و مغسولي الأدمغة و المتطوعين للجهاد في سبيل الله.اكتسب رباط نفيس آنذاك شهرته من تواجد خطيب متكلم فيه يدعو إلى التمسك بالسنة النبوية و السير على هدي السلف الصالح. و كان يدعو إلى منابذة الشيعة من المصامدة و خصوصا أهل برغواطة و يدعو إلى التمرد عليهم.
يقول المؤرخون العرب و المسلون الذين يريدون أن يعربوا كل أحداث التاريخ و يأسلموها و يمهروها بطابعهم البدوي و يجعلوها نسخة تتكرر رغما عن كل القوانين الطبيعية ، أنّ يحيى ابن إبراهيم حج إلى مكة بحثا عن فقيه أو عالم ليعلم أهل قبيلته أصول دينهم الحقيقي الذي ابتعدوا عنه أو لم تكن لهم كبير المعرفة به أصلا .فلما لم يحصل على مبتغاه بمكة دون ذكر السبب ، عرج على القيروان ليتصل هناك بالعالم أبي عمران موسى بن عيسى الفاسي (368 - 430 هـ= 979 -
فهل هذا طرح يقبله العقل و المنطق
إذا كانت أخبار عبد الله بن ياسين و رباط نفيس و الشيخ الصنهاجي وجاج بن زولو تطبق الآفاق ، و يعرفها القاصي و الداني ؛ فلماذا سيذهب الأمير يحيى إلى الشرق و القيروان ليدلوه على جاره الذي يسمع بأخباره ليل نهار!!!!؟ تذكرني هذه الأسطورة بالذي سألوه أين توجد أذنه فرفع يده اليسرى و أدارها حول رأسه ليشير إلى أذنه اليمنى و كأنه لا يملك ‘ذنا يسرى قريبة من سبابته
لقد استقر رأي مؤتمر شيوخ القبائل الصنهاجية و تجارها على استقطاب الشيخ عبد الله بن ياسين الذي يسمعون به، و تكلف الأمير شخصيا بهذه المهمة لما لها من أهمية استراتيجية فائقة الأهمية.فكلفته سنة من الهجرة و الانقطاع في رباط نفيس لربط الصلة بالشيخ و إقناعه بالقيام بمأمورية الدعوة في جنوب الصحراء بغية توحيد قبائل صنهاجة على المذهب السني و إعدادهم للقضاء على المصامدة الشيعة و المسيطرين على المسالك التجارية المؤدية إلى بلاد الأندلس
هكذا توحد الهدفان و اتفق الرجلان و نهضا جنوبا متوغلين في الصحراء داعيين إلى السير على نهج السلف و التمسك بالكتاب و السنة.و في طريقهما أضفى الأمير على الداعية الفقيه معلم القرآن ،لقب إمام الحق و محي السنة
أما إمام الحق هذا فهو عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير بن علي الجزولي, أصله من قبيلة تمانارت التي تتبع اليوم إقليم طاطا جنوب المغرب .و قبيلة جزولة التي ينتمي إليها استوطنت منذ القدم سفوح جبال الأطلس الصغير بجهة سوس جنوب المغرب التي سبق ذكرها.و الجدير بالانتباه ملاحظة التكوين العجيب لاسم هذه الشخصية .فعبد الله اسم عربي و كذلك ياسين اسم أبيه لكن اسمي جديه الأول و الثاني اسمان أمازيغيان مكوك و سير ، بينما اسم جدّه الثالث عربي هو الآخر،علي!!! فكيف حدث هذا؟أن يكون اسمه و اسم أبيه عربيين هذا مقبول عقليا ، و أن تكون أسماء أجداده من الأول و الثاني صعودا أسماء أمازيغية هذا مقبول عقليا أيضا ، أما و أن تقطع الأسماء الأمازيغية و تصبح عربية مرة أخرى فهذا مما يثير الشك و يفتح علامات الاستفهام.
على كل فقد أمضى إمام الحق طفولته في مسقط رأسه، وبعد ذلك تردّد على مدن العلم في المغرب فكان طالبا عند أوكاد بن زلوه اللمطي، في داره، التي بناها بالسوس ، وسماها دار المرابطين،ثم هاجر سبع سنين إلى الأندلس و كان ذلك في عهد الطوائف الزاهر، و إثر عودته مر بقبائل مصمودة المزدهرة اقتصاديا و المتفرقة سياسيا و مذهبيا.و لما لم يستطع الإندماج مع أهله وأقرانه من قبيلته جزولة اختار الالتحاق برباط نفيس عند أخ أستاذه الأول وجاج بن زولو.حبث سيصبح خطيبا مفوها و داعية مشهورا
لم تتفق أراء إمام الحق السلفية و أهواء أهل جدالة المتفتحة فما كان منهم إلا أن رفضوه و نحّوا الأمير يحيى عن مشيخة القبيلة فانهار الاتحاد الصنهاجي مرة أخرى.فاتفق الرجلان على إنشاء رباط مماثل لرباط نفيس على نفقة يحيى و تحت إشراف عبد الله بن ياسين على جزيرة بنهر السينغال الفاصل بين صحاري صنهاجة و ممالك السودان الغربي.
هكذا اعتزل الداعية غبد الله و السياسي يحيى بن إبراهيم المجتمع و انتبذه ظهريا و أسسا في منطقة هامشية مخيما يستقبلان فيه من تأكدا من كراهيته لأهله ة عشيرته و توسما فيه الغيظ و الحقد و الشر و العداء
في الحلقة المقبلة سنتتبع خطوات إمام الحق في بناء النواة الأولى لدولته ،و كيفية استقطاب أتباعه، و سنجول معه في غزواته؛ متوخين الوقوف عند محطات الالتقاء بينه و بين محمد رسوله و قدوته من جهة؛ و ابن لادن و حركته من جهة أخرى.
أبو قثم
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire