مطـــابُّ إنّا نحن نزّلنا الذّكر
في الحلقتين السابقتين رأينا أن الأخبار المتواترة إلينا عن جمع القرآن عديدة و فيها من التناقض الكثير
فرواية تقول أن عمر هو الذي فزع إلى أبي بكر في هذا الجمع، و خبر يقول : إنّ هذا الجمع لم يكن في عهد أبي بكر ، و إنما هو عمر الذي تولاه ، و رواية ثالثة تفيد أن عمر قد قتل قبل أن يكمل هذا الجمع ، و أن عثمان هو الذي أتمه ، و ثمت روايات و روايات لا مدعاة لإيرادها
فلو أخذنا بالرواية المشهورة التي أتى بها البخاري ، و هي التي فزع فيها عمر إلى أبي بكرلكي يجمعوا القرآن لمّا رأى القتل قد استحر في وقعة اليمامة و أنه قد قتل فيها من الصحابة مئات، و هم حملة القرآن ، و إذا استمرّ الأمر على ذلك فإنّ القرآن يضيع و ينسى! . لو أخذنا بهذه الرواية فإننا نجد أن الصحابة وحدهم هم الذين كانوا يحملون القرآن إلى هذا العهد ، و أنه بموتهم أو قتلهم سيضيع القرآن و سينسى. و أنه ليس هناك من مصدر آخر يُحفظ فيه القرآن على مدى الزمان .
في حين ، نجدهم من جهة أخرى، يذكرون في أخبار يقبلها العقل و المنطق ، أن النبي كان يكتب كلّ ما ينزل عليه من قرآن وقت نزوله على العسب و اللخاف و قطع الأديم و غيرها، و قد رأينا أنه اتخذ لذلك كتبة أحصاهم التاريخ و سميناهم مؤسسة جبريل،.
فأين ذهبت هذه النسخة التي لو بقيت لمّا شككنا في حزقة إنا نحن نزلنا الذّكر و إنا له لحافظون ، و لا في حزقة ـ إنّا علينا جمعه و قرآنه
هذه أول المطابّ
ثانيهما مطبُّ سورة الفاتحة و المعوذتين
نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر الفاتحة و المعوّذتين من القرآن و قد أنكر صحّة النقل عنه كثير من العلماء
فقال النووي في شرح المهّذب:
أجمع المسلمون على أن المعوّذتين و الفاتحة من القرآن و أن من جحد شيئا منها فقد كفر ، و ما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح. و قال ابن حزم في كتاب القدح المعلى تتميم المحلى: هذا كذب على ابن مسعود و موضوع ، و إنما صحّ عنه قراءة عاصم عن زر عنه ، و فيها المعوذتان و الفاتحة
.إلا أن ابن حجر في شرح البخاري يقول :
قد صحّ عن ابن مسعود ذلك ، فأخرج أحمد و ابن حبان عنه أنه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه ـ و بعد أن أورد كلّ الرّوايات التي جاءت في أن ابن مسعود كان يحكّ المعوّذتين من مصاحفه قال (ابن حجر) : فقول من قال إنه كذب عليه مردود ، و الطعن في الرّوايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل!!
أمّا ابن قتيبة في مشاكل القرآن فيقول:...ظنّ ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن لأنه رأى النبي يعوّذ بهما الحسن و الحسين فأقام على ظنه ، و لا نقول إنه أصاب في ذلك و أخطأ المهاجرون و الأنصارـ و أمّا إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن ؛ معاذ الله ؛ و لكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب و جمع بين اللوحين مخافة الشك و النسيان ، و الزيادة و النقصان ، و رأى أن ذلك مأمون في سورة الحمد لقصرها ووجوب تعلّمها على كل أحد...
و المتأمل لسورة الفاتحة يتساءل إذا كان القرآن كلام الله فكيف لله أن يحمد نفسه و يشكره؟
على أن هذه الروايات على تناقضها تجمع على أن المعوّذتين و الفاتحة مشكوك في أمر نسبتهما للقرآن و هذا يضعف من مصداقية حزقتنا إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون
المطبّ الثالث
نقل عن أبي بن كعب ، أنه كتب في مصحفه سورتين تسمّيان سورتي الخلع و الحفد ، كان يقنت بهما و هما :
اللهم إنا نستعينك ، و نستغفرك و نثني عليك الخير و لا نكفرك ، و نخلع و نترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد ، و إليك نسعى و نحفد ، نخشى عذابك و نرجو رحمتك إنّ عذابك بالكفّار ملحق
و قد تعرّض القاضي لذلك في الانتصار قائلا:
إن كلام القنوت المروي أن ابن كعب أثبته في مصحفه لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل بل هو ضرب من الدّعاء ، و إنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن و حصل العلم بصحّته
و لكن يا سعادة القاضي أبيّ هو كاتب الوحي فكيف لك أن تكذّب ما أثبته في مصحفه؟
و يضيف القاضي
و إنّه يمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزّلا ثمّ نسخ و أبيح الدّعاء به و خلط بكلام ليس قرآنا !!
يا سيادة القاضي نحن نريد أن نعرف هل كلام القنوت هذا من القرآن أم ليس من القرآن ؟
و ما دمت يا قاضي لم تستطع الحسم في السؤال تبقى حزقتنا بلا مصداقية.
رابع المطابّ
نقل عن زيد بن ثابت أنه قال في أثناء ذكره لحديث جمع القرآن في المصحف ـ و هو الجمع الأول ـ و كان ذلك في عهد أبي بكر:
فقمت و تتبعت القرآن أجمعه من الرّقاع و الأكتاف و العسب و صدور الرّجال حتّى و جدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره
ـ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم بالمؤمنين رؤوف رحيم.. ـ
و نقل عنه أيضا ، أنه قال في الجمع الثاني أيام عثمان:
لما نسخنا المصحف في الصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب( كيف فقدت؟ و من أيهما فقدت ؟ هل من المصحف الأصلي أم طارت من المصاحف المنسوخة؟ أنا لست أفهم كيف يفقد كلام مكتوب ) . يقول : كنت أسمع رسول الله يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله شهادته شهادة رجلين . و الآية هي
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلا
أبيّ إذا و كما ذكرنا في الحلقة الماضية مثله مثل ابن أبي سرح أضاف ما أراد و حذف ما لم يرق له من كلام اللوح المحفوظ ، نحن نذكر أن أبا بكر قد فرض شهادة رجلين على كل آية أو سورة تجمع من القرآن ،إلا ما أوحى به أبيّ فإنه لم يحتج إلا لشهادة رجل واحد هو خزيمة الذي جعل الرسول شهادته شهادة رجلين. فهل هذا كاف لإزاحة الشك حول مصدر هاتين الآيتين ؟ بالطبع لا و تبقى حزقتنا في الميزان
المطبّ الخامس
روى البخاري عن قتادة أنه قال: سألت أنس بن مالك ، من جمع القرآن على عهد رسول الله(ص) فقال : أربعة كلهم من الأنصار ، أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل ، و زيد بن ثابت ، و أبو زيد ، قلت و من أبو زيد ؟قال : أحد عمومتي ,
و روي من طريق ثابت عن أنس أنه قال :
مات النبي و لم يجمع القرآن غير أربعة ، أبو الدرداء ، و معاذ بن جبل ، و زيد بن ثابت ، و أبو زيد.
و فيه مخالفة لحديث قتادة من وجهين : التصريح بصيغة الحصر في الأربعة و ذكر أبي الدّرداء بدل أبي بن كعب
و قد خلق هذا التناقض كثيرا من الجدال يهمنا منه أن القرآن المشهود بجمعه و كتابته في العسب و اللخاف كان كتَبتُه أنصاراً! و نحن إذ نعيد السؤال المطروح آنفا ـ ماذا حدث لهذا المصحف؟ ـ نستحضر أمر سقيفة ابن ساعدة ؟و نتساءل هل من سند شرعي استند عليه الأنصار في انتخابهم لسعد بن عبادة؟ أم أنهم تصرفوا هكذا بوازع الطمع في السلطة ، لا غير؟؟ و هل هناك من سند شرعي من القرآن إستند عليه حزب قريش في الاستيلاء على مقاليد الحكم و الإطاحة بسعد بن عبادة؟ نحن نرى أنّ الإطاحة بسعد و محاربة حزب الأنصار واحد من الأسباب التي أدت بحزب قريش إلى الإجهاز على المصحف الذي جمع أيام النبي و تبديله بمصحف أبي بكر و عمر ثم استبداله بمصحف عثمان و بني أمية أما إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون فتبقى حزقة ما لها من قرار.
على أن مطاب آيتنا لم تنته عند هذا الحدّ بل تمادت إلى ما هو أخطر حتى صرّحت الروايات أن في الفرآن نقصا و لحنا و غيره
المطب السادس
أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال ـ و هو على المنبر
إن الله بعث محمدا بالحق نبيّا و أنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرّجم فقرأناها و عقلناها و وعيناها . رجم رسول الله (ص) و رجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضل بترك فريضة أنزلها الله ..ـ و الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال و النساء .ثمّ إنا كنّا نقرأ فيما كنّا يقرأ في كتاب الله :
ألاّ ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم
بمجرّد ما غادر أبو بكر الدنيا بدأ الذي أجرى الله العدل على سيفه و القرآن على لسانه يعترف بأن هناك من القرآن ما ضاع ، فأي مصداقية بعد شهادة عمر هذه تبقى لحزقة إنا نحن نزّلنا الذكر
و أخرج مسلم عن أبي الأسود عن أبيه قال : بعث أبو موسى الأشعري ، إلى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن فقال :
أنتم خيار أهل البصرة و قُرَّاؤُهم ، و لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوَ قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم .. ( أبو كوسى يعترف بأن من يقرأ القرآن يقسو فلبه !!!؟)..و إنا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها في الطّول و الشدة ببراءة فأنسيتها ( مع العلم أن الشدّة الواردة في براءة هي شدّة على الصحابة و فيها دراسات و آراء) ، و يضيف ، غير أني قد حفظت منها :
لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب
و كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة
إذا كان عمر من أول المسلمين و الذراع الأيمن لمحمد الأمين يقول أنّ آية ما أو اثنتين نقصتا من هنا أو أضيفتا إلى هناك فإن هذا قد يكون مقبولا منه. و لكن أبا موسى لم يعرف الإسلام إلا في السنة السابعة للهجرة بعد خيبر هو و أبا هريرة ، فكيف له أن يعرف ما سقط من القرآن و لم يذكره غيره؟ و لماذا لم يتذكر هذه السقطات إلا في البصرة؟ أم أنه كان يبحث هو الآخر عن طريقة لتصريف كلامه في اللوح المحفوظ كما فعل غيره؟
المتأمّل لمشكل جمع القرآن يخرج بفائدة لا ثاني لها هي أنه في الفترة الفاصلة ما بين وفاة النبي وحكم عبدالملك بن مروان حدث في القرآن تطورات و تغييرات ذهبت بأعظم القرآن و أبقت على أقله و أدخلت إليه ما لم يكن فيه ، و ليس عجبا أن نقول أن حزقتنا من بين ما أنزل بعد وفاة النبي
فعندما حضر أبو بكر بعد وفاة النبي و تيقن من موته خرج إلى الحاضرين الذين كانوا متشككين في أمر موت رسولهم و على رأسهم عمر بن الخطاب فخطب فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال ثم تلا هذه الآية وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
قال فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ قال وأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم قال فقال أبو هريرة : قال عمر والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد مات
ـ سيرة ابن هشام ـ
هل كأن الناس لم يسمعوا بها أو إنهم فعلا لم يسمعوا بها إلا من أبي بكر.؟ و عمر الذي ذهب إلى حدّ التهديد بقتل من يقول أن النبي قد مات كيف به ينسى آية مثل هذه في الأهمية و يتذكّر في آخر عمره آية الرجم ؟؟
ـ و ما محمّد إلا رسول ـ
هي أول آية نزلت بعد موت محمّد و تلتها آيات و آيات ختم عليها بقفل
إنا نحن نزلنا الّذّكر و إنّا له لحافظون
و إلى حزقة أخرى قريبا إن شاءت الظروف
أبو قثم
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire