بقلم الأديب الكبير
الأستاذ: علي أحمد باكثير
1
ابن المقفع(بعد انصراف الناس عن مجلس الأمير) هل لي الآن
يا عيسى ابن علي أن أكلمك في حاجتي؟
عيسى : حبا وكرامة يا أبا عمرو. اقترح ما تشاء.
ابن المقفع: أشتهي أن أسلم اليوم على يديك.

عيسى: (متعجبا) ويحك يا كاتبي العزيز لعلك إنما تريد مسرتي بذلك لمكانك عندي فوالله يا ابن المقفع إن مكانك عندي لمحفوظ وأنت باق على دينك.
ابن المقفع: كلا يا سيد الأمير لقد شرح الله صدري للإسلام منذ أمد طويل، ولكني كنت أخشى أن يظن الظانون أنني أنما أسلمت لرغبة أو رهبة.
عيسى : كما صنعت أنا اليوم؟ لا والله يا أبا عمرو ما خطر ذلك ببالي قط. فمعذرة إليك أن ساءك قولي من حيث لم أقصد.
ابن المقفع : كلا يا سيدي أن ظنك هذا فهو أكرم ما أخشى من الظن

عيسى : ولكن ماذا جد اليوم فدفعك إلى هذا العزم؟
ابن المقفع: قد استقرت خلافتكم يا آل العباس وتبين لكم من قام ومن قعد من المعادين لكم والموالين فاستعملتم من استعملتم وأبعدتم من أبعدتم. وقد بلغت أنا ما بلغت مد صرت كإليك ولا أعدل بمكاني عندك مكاناً عند غيرك.
عيسى : حتى أمير المؤمنين؟

ابن المقفع: حتى أمير المؤمنين.
عيسى : كلا يا أبا عمرو أني لأرجو لك يوماً أن تكون كاتب أمير المؤمنين فأنت والله أهل لذلك، بل أولى الناس بذلك.
ابن المقفع: لو كنت أنت أمير المؤمنين أو سليمان بن علي أخوك لاستشرف لهذا المنصب. وأما ابن أخيك أبو جعفر المنصور فلا.
عيسى : فيم يا أبا عمرو؟
ابن المقفع: أنه للنموذج التام لذلك الصنف من العرب الذين تفسخت في الحكم والسلطان، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
عيسى : أما أن هذا لعجب منك!.

ابن المقفع: أن تعجب يا سيدي فقد عجب غيرك لما كنا في المريد ذات يوم يعدون أجناس البشر، فلما قلت لهم أن العرب أعقل الجميع ضحكوا من العربية كما ينماع الملح في الماء.
عيسى : ولكن كثيراً من قومك لا يرون هذا الرأي أنهم ليضغنون على العرب.

ابن المقفع: أتريد الحق يا سيدي؟
عيسى : نعم قل ما عندك ولا تتحفظ فإني أحب رأيك.

ابن المقفع: إن لهؤلاء عذرهم فقد ذهب العرب بملكهم وسلطانهم.
عيسى : ذلك الإسلام يا أبا عمرو لا العرب. والقوم قد شاركوا العرب في الاهتداء بنوره فخرجوا به من ظلمة الشرك وعتقوا من ذل العبودية لدهافينهم.
ابن المقفع: هذا حق يا سيدي الأمير. لقد رحب سوادنا بالإسلام لهذا المعنى الذي ذكرت فسعدوا واغتبطوا حينا من الدهر، وتطبعوا بأخلاقكم وتكلموا بلسانكم، غير أنكم ما لبثتم معشر العرب أن تنكرتم لعزائم هذا الدين العظيم الذي جعل الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فأبيتم إلا أن تعيدوها عصبية جاهلية، فاستشرتم بذلك عصبية غيركم فأخذ هؤلاء يناوثونكم وينافرونكم بما كان لهم من قدم في الملك والسياسية والعمران قبلكم، ولاسيما حيثما رأوكم تعظمون هذه الأمور الدنيا أكثر مما تعظمون تلك المثل العليا التي جاء بها دينكم وكانت تستجيب لها سلائقكم النقية قبل أن تختلطوا بغيركم، فأصبح الأمر أمر دنيا بأسبابها تتفاخرون وتتكاثرون، فلم لا يكون لقومي إذن أن يفخروا على العرب بما ليس للعرب مثله ما دام العرب قد زهدوا فيما ليس عند قومي مثله مما هو أكرم وأشرف؟

عيسى : لله درك يا أبا عمرو! ألا ليت الناس يفهمون هذا ويعونه عنك. فهلا كتبت لهم كتاباً في هذا المعنى؟
ابن المقفع: هيهات يا ابن علي لقد اتسع الخرق على الراقع فإن كتبت في هذا لا تهمن بالخديعة والنفاق كما فعلوا يوم المربد.

عيسى : وأنك لتكتب عن أمجاد قومك وسياسة ملوكهم وحكمة حكمائهم فكيف يستقيم هذا مع ما ذكرت؟

ابن المقفع: بل لا يستقيم غير ذلك يا سيد الأمير، لقد وجدت الناس بأخفى، والي قراءتها وتداولها أسرع مما لو كتبت عن عدل ابن الخطاب أو هذا ابن أبي طالب. دع عنك من عداهما من هداة هذا الدين ومصابيحه مما لم يتفق مثله لأمة من الأمم قبلكم. وما أخاله ينفق لأمة من الأمم بعدكم. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
عيسى : أحسنت يا ابن المقفع ولكن هذا كله لا ينهض عذراً لامتناعك عن شرح ذلك في كتاب يقرؤه الناس.
عيسى : وما شأنك بالمنصور؟

ابن المقفع: سيكون المنصور أول غرض تدريه سهام النقد.
عيسى : لا يا أبا عمرو. خل أبا جعفر ناحية وقل ما تشاء فيمن دونه.
ابن المقفع: لا.. لا سبيل إلى ذلك .. ولكن إذا عزمت على فسأكتب ولأبي جعفر كتاباً ينتفع به إن شاء الله في إصلاح قضاته وجنده وبطانته وما يتصل بذلك.
عيسى : على منوال كتابيك الأدب الكبير والأدب الصغير؟
ابن المقفع: لا يا سيدي بل على غير مثال سابق. سأنظر فيه إلى ما هو واقع ثم استنبط ما ينبغي له من الإصلاح في مختلف وجوهه.
عيسى : افعل يا ابن المقفع فعسى أن يكون ذلك وليجة لك إلى قلب أمير المؤمنين.
ابن المقفع: لا تعجل يا سيدي فحسبي أن يقف أمير المؤمنين بعدها مني كفافاً لا على ولا لي.

عيسى: ما رأيت كاليوم عجباً. تريد يا أبا عمرو أن تسلم على يدي وأنت تفقه الإسلام خيراً مني

ابن المقفع: مهلاً يا سيدي .. فوالله لو أن عند غيرك ما عندك من الفهم والسماحة والإنصاف ما تزندق من تزندق إلا على جهل أو سوء نية هل لك الآن أن تشهد على إسلامي؟
عيسى: لا .. ليس الآن يا أبا عمرو حتى أجمع لك القواد غدا ووجوه الناس ليكون ذلك بمحضر من الجميع.

2

عيسى: كلا يا سفيان لا تحاول أيغار صدري على ابن المقفع فهو بمنزلة أخي مني. وبذلك أو قد ظننت أنك صاحب الأمر في هذه البلدة منذ أرسلك أبو جعفر من أجل أخي عبدالله بن علي؟ هيهات أني ما زلت هنا صاحب الأمر!.

سفيان: لا تغضب يا عم أمير المؤمنين فأني ما حدثت نفسي معاذ الله أ، أنازعك هذا الأمر ولكن ابن أخيك أمير المؤمنين قد ساءته كثيراً نسخة الأمان التي كتبها ابن المقفع لعبدالله بن علي.
عيسى: أو قد نوى أمير المؤمنين أن يغدر بعمه عبدالله؟
سفيان: لا.. ولكن كاتبك هذا قد بالغ في توكيد ذلك بما عده أمير المؤمنين غاضنا من مقامه ولاسيما قوله: (ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبدالله بن علي فنساؤه طوالق وعبده أحرار والمسلمون في جل من بيعته)!.
عيسى: لا بأس على أبي جعفر من ذلك ما وفى بعد الأمان ، أما أن غدر فلا كرامة عندنا لغادر.
سفيان: وتلك الرسالة التي كتبها قبل ذلك وقصد بها أمير المؤمنين؟
عيسى: تعني رسالة الصحابة؟
سفيان: نعم.
عيسى: أي شيء فيها اغضب أبا جعفر؟
سفيان: أنها نقد صريح لأمير المؤمنين.
عيسى: أشهد والله ما دفع ابن المقفع إلى كتابتها بر الإخلاص لأمير المؤمنين وللمسلمين عامة.
سفيان : أي إخلاص؟ هل غرك يا ابن علي أنه أسلم على يدك وسمى نفسه عبدالله؟ لو تحريت عنه لوجدته مقيماً على زندقته والحادة.

عيسى : كلا.. أنه أعرف بالإسلام مني ومنك.

سفيان : وإن في الزنادقة لكثير! ممن يعرفون الإسلام. ألا ترى إلى خلطاء ابن المقفع وندمائه حتى اليوم؟ هل تجد بينهم إلا زنديقاً أو يتزندق كواليه ابن الحباب ومطيع بن أياس وحماد عجرد وبشار بن برد؟

عيسى : أنتظر حتى نسأله عن ذلك حين يحضر الساعة.
سفيان : أيضحر ابن المقفع الساعة؟
عيسى : نعم.

سفيان : فأذن لي إذن.

عيسى : كلا، بل تبقى لتسمع معي ما عنده. ها هو ذا قد حضر! ادخل ياا عبدالله. هذا سفيان ابن المهلب يشتهي أن يراك ويسمعك.
ابن المقفع: ( يدخل) لقد رآني قديماً ويسمعني أيها الأمير.

سفيان : أنك لم تلقني منذ قدمت البصرة يا ابن المقفع!
ابن المقفع: لو أعلم أنك تحب لقائي يا سفيان للقيتك.
عيسى : هلم يا أبا عمرو أن بعض الناس ينكر عليك أن تبقى بعد إسلامك مواليا لأشياء حماد عجرد ووالبة بن الحباب من المعروفين بالزندقة تسامرهم وتنادمهم على الشراب.. فماذا تقول في ذلك؟

ابن المقفع: لو أنصف هذا البعض أيها الأمير لكف هو عن الشراب قبل أن ينكره على مثلي.

سفيان: قد علمت أنك تعنيني .
ابن المقفع: فاستح إذن.
سفيان : ولكن لا أنادم الزنادقة.
ابن المقفع: لأنك لست من الشعر والأدب في شيء أني أنما أنادم هؤلاء على ذلك. فلو كنت أنت يا سفيان منهم لنادمتك.

عيسى : ويلكما لقد اعترفتما بشرب الخمر عندي!.
ابن المقفع: أينا أكبر إثماً: الذي شربها في الإسلام بضعة أشهر، أم الذي شربها في الإسلام ثلاثين سنة؟
عيسى : (يضحك): خير لك يا سفيان ألا تتعرض لأبي عمرو. ولكن ألا تستطيع الإقلاع عن الشراب يا أبا عمرو؟
ابن المقفع: يا سيدي الأمير، أني أحببت من هذا الدين مثله العليا فاعتنقته من أجلها، وأخذت نفسي بالعمل بها تهذيباً وتصفيه. فأما الشراب واللهو فشيء مركب في طبعي وما أخالني أستطيع الانفكاك عن ذلك وأنا في ريعان شبابي. فأهملوني حتى تتقدم بن السن وأن الله لواسع المغفرة وأنه ليقول: (إن الحسنات يذهبن السيئات).
سفيان : وعبدالكريم ابن أبي العوجاء ما الذي حببه إليك يا ابن المقفع حتى رثيته بالشعر وليس بأديب ولا شاعر وإنما كان يضع الأحاديث كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ابن المقفع: رويدك كأنك جئت اليوم لتحاسبني على ما قدمت وما أخرت؟
عيسى : بل أجبه يا أبا عمرو فإني أعلم أن عند له الجواب المقنع.
ابن المقفع: كانت تجمعني بعبدالكريم ابن أبي العوجاء صلة النشأة وطلب العلم، ثم فزقتنا الأيام فاتخذ هو سبيلا واتخذت أنا سبيلا. فلما بلغني مقتله هزتني تلك الذكرى القديمة فرثيته بثلاثة أبيات من الشعر، فأي بأس في ذلك؟
سفيان : لكنك تعلم أنه قتل على الزندقة.

ابن المقفع: سبحان الله .. أرأيت لو رثيت صديقاً لي مجوسياً يعبد ويزمزم على الطعام، أتنكر ذلك على؟ أني أنما أرني شخصه ولا شأن لي بمذهبه.
عيسى : قد قلت لك يا سفيان لا تتعرض لكاتبي هذا فليس له في البلغاء ضريب وأني لأباهي به أمير المؤمنين أبا جعفر؟
سفيان: صدقت أيها الأمير أن أبا عمرو لممن لا يجحد فضله، وما تجنيت عليه إلا لخصومه قديمة كانت بيني وبينه في نيسابور.
عيسى: في نيسابور.
سفيان: أجل .. على عهد مروان بن محمد (لابن المقفع) هل لنا أن نتسامح اليوم يا أبا عمرو؟
ابن المقفع: حبا وكرامة يا سفيان.. ما أحرأنا والله أن ننسى خصومة قد ذهب بها ما ذهب بملك آل مروان!
3
(في سرداب أعده سفيان للقضاء على ابن المقفع)

سفيان: هل أوقدتم التنور؟

الجلاد: نعم.

سفيان: آتوني بابن الزندقة الآن!.
الجلاد: سمعً وطاعه!.

سفيان: (متمتما وجده) يا ابن المغتلمة! سأريه اليوم كيف تغتلم النار عليه!.
ابن المقفع: (صوته) ويلكم.. أين أنتم بي ذاهبون؟
سفيان: ادخل يا ابن المقفع على الرحب والسعة.

ابن المقفع: (يدخلون به) سفيان!.

سفيان: أجل .. أنا سفيان .. أنا ابن المغتلمة.

ابن المقفع: (في استعطاف) ويحك يا ابن الملهب.. أما زلت تحفدها على؟ أو لسنا قد تسامحنا منذ حين؟
سفيان: هيهات.. أتطمع أن أغفر لك قولتك لي: يا ابن المغتلمة؟
ابن المقفع: أنت بدأتني بالسب إذ دعوتني ابن الزنديقة.
سفيان: وأنك لابن الزنديقة ما حييت! .

ابن المقفع: (يغير لهجته متحدياً): وأنك لابن المغتلمة إلى الأبد.
سفيان: ويل لك.. أما نرى التنور يسجر لك؟
ابن المقفع: (ساخراً) أني أعبد النار به هذا فهي لا تحرقني.

سفيان : أقررت بها الآن يا زنديق!.

ابن المقفع: كما شهد صنيعك هذا على أمك!.

سفيان: دعني من هذا.. ولكن قل لي يا أبلغ البلغاء يا كاتب نسخة الأمان لعبدالله بن علي .. كيف وقعت اليوم في يدي؟

ابن المقفع: لست أول كريم وقع في يد لئيم .. لقد أعماك الحقد فأنساك أن دمى لن يذهب هدرا.

سفيان : لعلك تشير إلى مكانك عند عيسى بن علي فاعلم يا مغرور أن الذي يحميني أنا هو أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور!.
ابن المقفع: فقد غاب عنك يا أحمق أن أبا جعفر لن يؤثر رضاك غدا على رضا عمه عيسى بن علي. كن كلب أبي جعفر في الوفاء له فلن يفرط أبو جعفر في عمه من أجل كلب!!.

سفيان: ويلك يا مخدوع أن تظن هذا المعنى غاب عني؟ لن يجد عيسى ابن علي برهاناً على قتلى إياك يستطيع أن يوجه به ابن أخيه.. ما رآك عندي غير أعواني هؤلاء أفتحسبهم يشهدون لك عند صاحبك على؟ أين يا بن الزنديقة ذهب إذن دهائي ومركي؟
ابن المقفع: الدهاء والمكر والغدر والخيانة! أفخر بهذه الخلال التي أخذتها عن خليفتك. كما أخذها هو عن أبي سلمة الخلال وأبي أيوب المورياني وأبي مسلم وأضرابهم من العلوج الذين أفسدوا على الأمة وعلى ملوكها أمرهم.. اذهب بها يا ابن المغتلمة وسأذهب أنا لألقى ربي بما اقتبست من هدي هذا الدين وسجايا أمته قبل أن تتلوث بغيرها من الأمم!.
سفيان: (يقهقه ساخراً) خذوا هذا الواعظ الزنديق فاسجروه في التنور قبل أن يفسد عقلي بوعظه وزندقته.
ابن المقفع: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

(يسحبون فيلقونه في التنور)

ابن المقفع: (يتأوه): آه .. آه ..

سفيان: (بصوت متقطع) أهون من نار الآخرة التي ستكبكب فيها غداً ...
سفيان: بل ستلقي في نار جهنم أيضاً يا زنديق.
ابن المقفع: (يتحشرج) أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

*الرسالة الجديدة،عدد1، إبريل 1954م

اقتباس 
الكافر بالله 
أبوقثم
أخزاه الله